سورة الأنفال - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


هذا حكم آخر من أحكام الجهاد. ومعنى {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ} ما صح له وما استقام، وقرأ أبو عمرو، وسهيل ويعقوب، ويزيد، والمفضل، أن تكون بالفوقية، وقرأ الباقون بالتحتية، وقرأ أيضاً يزيد والمفضل {أسارى} وقرأ الباقون {أسرى} والأسرى جمع أسير، مثل قتلى وقتيل، وجرحى وجريح، ويقال في جمع أسير أيضاً أسارى بضم الهمزة وبفتحها، وهو مأخوذ من الأسر، وهو القيد، لأنهم كانوا يشدّون به الأسير، فسمي كل أخيذ وإن لم يشدّ بالقدّ أسيراً، قال الأعشى:
وقيدني الشعر في بيته *** كما قيدت الأسرات الحمارا
وقال أبو عمرو بن العلاء: الأسرى هم غير الموثقين عندما يؤخذون، والأسارى هم الموثقون ربطاً. والإثخان: كثرة القتل والمبالغة فيه؛ تقول العرب: أثخن فلان في هذا الأمر، أي بالغ فيه. فالمعنى: ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يبالغ في قتل الكافرين ويستكثر من ذلك. وقيل معنى الإثخان: التمكن، وقيل: هو القوّة. أخبر الله سبحانه أن قتل المشركين يوم بدر كان أولى من أسرهم، وفدائهم؛ ثم لما كثر المسلمون رخص الله في ذلك فقال: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} [محمد: 4] كما يأتي في سورة القتال إن شاء الله. قوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ} الحياة {الدنيا} أي: نفعها ومتاعها بما قبضتم من الفداء، وسمي عرضاً لأنه سريع الزوال كما تزول الأعراض التي هي مقابل الجواهر {والله يُرِيدُ الآخرة} أي: يريد لكم الدار الآخرة بما يحصل لكم من الثواب في الإثخان بالقتل. وقرئ: {يريد الآخرة} بالجر على تقدير مضاف وهو المذكور قبله، أي والله يريد عرض الآخرة {والله عَزِيزٌ} لا يغالب {حَكِيمٌ} في كل أفعاله.
قوله: {لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} اختلف المفسرون في هذا الكتاب الذي سبق ما هو؟ على أقوال: الأوّل ما سبق في علم الله من أنه سيحلّ لهذه الأمة الغنائم بعد أن كانت محرّمة على سائر الأمم. والثاني: أنه مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، كما في الحديث الصحيح: «إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» القول الثالث هو: أنه لا يعذبهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]. القول الرابع: أنه لا يعذب أحداً بذنب فعله جاهلاً لكونه ذنباً. القول الخامس: أنه ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر. القول السادس: أنه لا يعذب أحداً إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي، ولم يتقدّم نهي عن ذلك.
وذهب ابن جرير الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ، وأنه يعمها {لَمَسَّكُمْ} أي: لحلّ بكم {فِيمَا أَخَذْتُمْ} أي: لأجل ما أخذتم من الفداء {عَذَابٌ عظِيمٌ} والفاء في {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} لترتيب ما بعدها عن سبب محذوف، أي قد أبحت لكم الغنائم، فكلوا مما غنمتم ويجوز أن تكون عاطفة على مقدّر محذوف، أي اتركوا الفداء فكلوا مما غنمتم من غيره.
وقيل إن {ما} عبارة عن الفداء، أي كلوا من الفداء الذي غنمتم فإنه من جملة الغنائم التي أحلها الله لكم و{حلالا طَيّباً} منتصبان على الحال، أو صفة المصدر المحذوف، أي أكلاً حلالاً طيباً {واتقوا الله} فيما يستقبل، فلا تقدموا على شيء لم يأذن الله لكم به {إِن الله غَفُورٌ} لما فرط منكم {رَّحِيمٌ} بكم، فلذلك رخّص لكم في أخذ الفداء في مستقبل الزمان.
وقد أخرج أحمد، عن أنس قال: استشار النبيّ صلى الله عليه وسلم الناس في الأسرى يوم بدر فقال: «إن الله قد أمكنكم منهم» فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم. ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم؛ وإنما هم إخوانكم بالأمس»، فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم عاد فقال مثل ذلك فقام أبو بكر الصديق فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء، فأنزل الله: {لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ} الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي وحسنه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن ابن مسعود قال: لما كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ترون في هؤلاء الأسارى؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك فاستبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدّمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب فأضرمه عليهم ناراً، فقال العباس وهو يسمع: قطعت رحمك، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ولم يردّ عليهم شيئاً، فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس: يأخذ بقول عمر، وقال قوم: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدّد قلوب رجال فيه حتى تكون أشدّ من الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال: {ومن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام إذ قال: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118]، ومثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام إذ قال: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26]، ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال: {رَبَّنَا اطمس على أموالهم واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم} [يونس: 88] أنتم عالة فلا ينفلتنّ أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق»
، فقال عبد الله: يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليّ الحجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا سهيل بن بيضاء»، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} الآية.
وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن عليّ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأسارى يوم بدر: «إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتم واستمتعتم بالفداء، واستشهد منكم بعدّتهم، فكان آخر السبعين ثابت بن قيس اسشهد باليمامة».
وأخرج عبد الرزاق في مصنفه، وابن أبي شيبة عن عبيدة نحوه.
وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن عمر، قال: لما أسر الأسارى يوم بدر أسر العباس فيمن أسر، أسره رجل من الأنصار وقد وعدته الأنصار أن يقتلوه. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه»، فقال له عمر: فآتيهم؟ قال: «نعم»، فأتى عمر الأنصار فقال: أرسلوا العباس، فقالوا: لا والله لا نرسله. فقال لهم عمر: فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضا، قالوا: فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضا فخذه، فأخذه عمر، فلما صار في يده قال له: يا عباس أسلم، فوالله إن تسلم أحبّ إليّ من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك، قال: فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقال أبو بكر: عشيرتك فأرسلهم، فاستشار عمر فقال: اقتلهم، ففاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله، {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} يقول حتى يظهروا على الأرض.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد، قال: الإثخان هو: القتل.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن مجاهد، أيضاً في الآية قال: ثم نزلت الرخصة بعد، إن شئت فمنّ، وإن شئت ففاد.
وأخرج ابن المنذر عن قتادة {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} قال: أراد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر الفداء، ففادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} قال: الخراج.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ} قال: سبق لهم المغفرة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، قال: ما سبق لأهل بدر من السعادة.
وأخرج النسائي، وابن مردويه، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، قال: سبقت لهم من الله الرحمة قبل أن يعملوا بالمعصية.
وأخرج أبو حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال: سبق أن لا يعذب أحداً حتى يبين له ويتقدّم إليه.


اختلاف القراء في أسرى والأسارى هو هنا كما سبق في الآية قبل هذه. خاطب الله النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا، أي قل لهؤلاء الأسرى الذين هم في أيديكم أسرتموهم يوم بدر وأخذتم منهم الفداء، {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} من حسن إيمان، وصلاح نية، وخلوص طوية {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} من الفداء: أي يعوّضكم في هذه الدنيا رزقاً خيراً منه، وأنفع لكم، أو في الآخرة بما يكتبه لكم من المثوبة بالأعمال الصالحة {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} شأنه المغفرة لعباده والرحمة لهم. ولما ذكر ما ذكره من العوض لمن علم في قلبه خيراً ذكر من هو على ضدّ ذلك منهم فقال: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ} بما قالوه لك بألسنتهم من أنهم قد آمنوا بك وصدّقوك، ولم يكن ذلك منهم عن عزيمة صحيحة ونية خالصة، بل هو مماكرة ومخادعة، فليس ذلك بمستبعد منهم، فإنهم قد فعلوا ما هو أعظم منه، وهو أنهم خانوا الله من قبل أن تظفر بهم، فكفروا به وقاتلوا رسوله {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} بأن نصرك عليهم في يوم بدر، فقتلت منهم من قتلت وأسرت من أسرت {والله عَلِيمٌ} بما في ضمائرهم {حَكِيمٌ} في أفعاله بهم.
وقد أخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن عائشة قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص، وبعثت فيه بقلادة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ رقة شديدة وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها»، وقال العباس: إني كنت مسلماً يا رسول الله، قال: «الله أعلم بإسلامك، فإن تكن كما تقول فالله يجزيك، فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب، وحليفك عتبة بن عمرو»، قال: ما ذاك عندي يا رسول الله، قال: «فأين المال الذي دفنت أنت وأمّ الفضل؟ فقلت لها: إن أصبت فهذا المال لبنيّ؟» فقال: والله يا رسول الله إن هذا لشيء ما علمه غيري وغيرها، فاحسب لي ما أصبتم مني عشرون أوقية من مال كان معي، قال: «لا أفعل»، ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، ونزلت: {قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الأسرى} الآية، فأعطاني مكان العشرين الأوقية في الإسلام، عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله.
وأخرج ابن سعد، والحاكم وصححه، عن أبي موسى أن العلاء ابن الحضرمي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين ثمانين ألفاً، فما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أكثر منه، فنشره على حصير، وجاء الناس، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم، وما كان يومئذ عدد ولا وزن، فجاء العباس فقال: يا رسول الله إني أعطيت فدائي، وفداء عقيل يوم بدر، أعطني من هذا المال، فقال: «خذ»، فحثا في خميصته، ثم ذهب ينصرف فلم يستطع، فرفع رأسه وقال: يا رسول الله ارفع عليّ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب وهو يقول: أما أحد اللذين وعد الله فقد أنجزنا، وما ندري ما يصنع في الأخرى {قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الأسرى إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} فهذا خير مما أخذ مني ولا أدري ما يصنع في المغفرة. والروايات في هذا الباب كثيرة.
وأخرج ابن سعد، وابن عساكر، عن ابن عباس، في الآية قال: نزلت في الأسارى يوم بدر، منهم العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عنه، في قوله: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ} إن كان قولهم كذباً {فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} فقد كفروا وقاتلوك {فَأَمْكَنَك} الله مِنْهُمْ.


ختم الله سبحانه هذه السورة بذكر الموالاة ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به، وسمى سبحانه المهاجرين إلى المدينة بهذا الاسم، لأنهم هجروا أوطانهم وفارقوها طلباً لما عند الله، وإجابة لداعيه {والذين ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ} هم الأنصار، والإشارة بقوله: {أولئك} إشارة إلى الموصول الأوّل والآخر، وهو مبتدأ وخبره الجملة المذكورة بعده، ويجوز أن يكون {بَعْضُهُمْ} بدلاً من اسم الإشارة، والخبر {أَوْلِيَاء بَعْضٍ} أي: بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة، وقيل المعنى: إن بعضهم أولياء بعض في الميراث.
وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: {وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ}.
قوله: {والذين ءامَنُواْ} مبتدأ، وخبره {مَا لَكُم مّن ولايتهم مّن شَئ}. قرأ يحيى بن وثاب والأعمش، وحمزة {من ولايتهم} بكسر الواو. وقرأ الباقون بفتحها، أي ما لكم من نصرتهم وإعانتهم، أو من ميراثهم، ولو كانوا من قراباتكم لعدم وقوع الهجرة منهم {حتى يُهَاجِرُواْ} فيكون لهم ما كان للطائفة الأولى الجامعين بين الإيمان والهجرة {وَإِنِ استنصروكم} أي: هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا، إذا طلبوا منكم النصرة لهم على المشركين {فَعَلَيْكُمُ النصر} أي: فواجب عليكم النصر {إِلا} أن يستنصروكم {على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مّيثَاقٌ} فلا تنصروهم ولا تنقضوا العهد الذي بينكم وبين أولئك القوم، حتى تنقضي مدته. قال الزجاج: ويجوز فعليكم النصر بالنصب على الإغراء.
قوله: {والذين كَفَرُواْ} مبتدأ خبره {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} أي: بعضهم ينصر بعضاً ويتولاه في أموره، أو يرثه إذا مات، وفيه تعريض للمسلمين بأنهم لا يناصرون الكفار ولا يتولونهم، قوله: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} الضمير يرجع إلى ما أمروا به قبل هذا من موالاة المؤمنين ومناصرتهم على التفصيل المذكور، وترك موالاة الكافرين {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأرض} أي: تقع فتنة إن لم تفعلوا ذلك {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} أي: مفسدة كبيرة في الدين والدنيا، ثم بيّن سبحانه حكماً آخر يتعلق بالمؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل الله والمؤمنين الذين آووا من هاجر إليهم ونصروهم وهم الأنصار، فقال: {أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً} أي: الكاملون في الإيمان، وليس في هذا تكرير لما قبله فإنه وارد في الثناء على هؤلاء، والأوّل وارد في إيجاب الموالاة والنصرة، ثم أخبر سبحانه أن {لَهُمْ} منه {مَغْفِرَةٍ} لذنوبهم في الآخرة ولهم في الدنيا {رّزْقٌ كَرِيمٌ} خالص عن الكدر طيب مستلذ. ثم أخبر سبحانه بأن من هاجر بعد هجرتهم وجاهد مع المهاجرين الأوّلين والأنصار فهو من جملتهم، أي من جملة المهاجرين الأوّلين والأنصار في استحقاق ما استحقوه من الموالاة والمناصرة، وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم، ثم بيّن سبحانه بأن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض من غيرهم ممن لم يكن بينه وبينهم رحم في الميراث، والمراد بهم القرابات فيتناول كل قرابة.
وقيل المراد بهم هنا: العصبات، قالوا: ومنه قول العرب: وصلتك رحم، فإنهم لا يريدون قرابة الأم. قالوا: ومنه قول قتيلة:
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه *** لله أرحام هناك تشقق
ولا يخفاك أنه ليس في هذا ما يمنع من إطلاقه على غير العصبات، وقد استدل بهذه الآية من أثبت ميراث ذوي الأرحام، وهم من ليس بعصبة ولا ذي سهم على حسب اصطلاح أهل علم المواريث، والخلاف في ذلك معروف مقرر في مواطنه.
وقد قيل: إن هذه الآية ناسخة للميراث بالموالاة والنصرة عند من فسر ما تقدّم من قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} وما بعده بالتوارث، وأما من فسرها بالنصرة والمعونة فيجعل هذه الآية إخباراً منه سبحانه وتعالى بأن القرابات {بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله} أي: في حكمه، أو في اللوح المحفوظ، أو في القرآن، ويدخل في هذه الأولوية الميراث دخولاً أوّلياً لوجود سببه، أعني القرابة {أَنَّ الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ} لا يخفى عليه شيء من الأشياء كائناً ما كان، ومن جملة ذلك ما تضمنته هذه الآيات.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ} الآية قال: إن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث منازل، منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه، وفي قوله: {والذين ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ} قال: آووا ونصروا وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة، وشهروا السيوف على من كذب وجحد، فهذان مؤمنان جعل الله بعضهم أولياء بعض، وفي قوله: {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُوا} قال: كانوا يتوارثون بينهم إذا توفى المؤمن المهاجر بالولاية في الدين، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر، فبرّأ الله المؤمنين المهاجرين من ميراثهم، وهي الولاية التي قال: {مَا لَكُم مّن ولايتهم مّن شَئ حتى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ استنصروكم فِى الدين فَعَلَيْكُمُ النصر إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثاق} كان حقاً على المؤمنين الذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدين أن ينصروهم إن قوتلوا إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق، فلا نصر لهم عليهم إلا على العدوّ الذي لا ميثاق لهم، ثم أنزل الله بعد ذلك أن ألحق كل ذي رحم برحمه من المؤمنين الذين آمنوا {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُوا} فجعل لكل إنسان من المؤمنين نصيباً مفروضاً، لقوله: {وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} الآية، وفي رواية لابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} قال: يعني في الميراث جعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار دون الأرحام {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ} ما لكم من ميراثهم من شيء {حتى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ استنصروكم فِى الدين} يعني: إن استنصر الأعراب المسلمون المهاجرين والأنصار على عدوّ لهم، فعليهم أن ينصروهم إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق، فكانوا يعملون على ذلك حتى أنزل الله هذه الآية: {وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} فنسخت الآية التي قبلها، وصارت المواريث لذوي الأرحام.
وأخرج أبو عبيد، وأبو داود، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً في هذه الآيات قال: كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن، ولا يرث الأعرابي المهاجر، فنسختها هذه الآية {وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عنه، أيضاً قال: قال رجل من المسلمين: لنورثنّ ذوي القربى منا من المشركين، فنزلت: {والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}.
وأخرج أحمد، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المهاجرون بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة، والطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة».
وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، عن أسامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافراً، ولا كافر مسلماً، ثم قرأ: {والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} الآية».
وأخرج ابن سعد، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن الزبير بن العوام قال: أنزل الله فينا خاصة معشر قريش {وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله} وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان. فواخيناهم ووارثناهم فآخونا، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد، وآخى عمر فلاناً، وآخى عثمان بن عفان رجلاً من بني زريق بن أسعد الزرقي، قال الزبير: وآخيت أنا كعب بن مالك، ووارثونا ووارثناهم، فلما كان يوم أحد قيل لي: قد قتل أخوك كعب بن مالك، فجئته فانتقلته فوجدت السلاح قد ثقلته فيما يرى، فوالله يا بنيّ لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيري، حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار، فرجعنا إلى مواريثنا.
وأخرج أبو داود الطيالسي، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه وورّث بعضهم من بعض، حتى نزلت هذه الآية: {وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8